فصل: تفسير الآيات (113- 122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (113- 122):

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}
قوله: {وكذلك أنزلناه} معطوف على قوله: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه، أي القرآن حال كونه {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً} أي بلغة العرب ليفهموه {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} بينا فيه ضروباً من الوعيد تخويفاً وتهديداً أو كررنا فيه بعضاً منه {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ويحذروا عقابه {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} أي اعتباراً واتعاظاً. وقيل: ورعاً. وقيل: شرفاً. وقيل: طاعة وعبادة؛ لأن الذكر يطلق عليها. وقرأ الحسن: {أو نحدث} بالنون.
{فتعالى الله الملك الحق} لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزّه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء، أي جلّ الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب، وأنه الحق أي ذو الحق {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي يتمّ إليك وحيه. قال المفسرون: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً منه على ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]. على ما يأتي إن شاء الله. وقيل: المعنى: ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش: {من قبل أن نقضي} بالنون ونصب: {وحيه}. {وَقُل رَّبّ زِدْنِي عِلْماً} أي سل ربك زيادة العلم بكتابه.
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ} اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تصريف الوعيد، أي لقد أمرناه ووصيناه، والمعهود محذوف، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة، ومعنى {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا الزمان {فَنَسِيَ} قرأ الأعمش بإسكان الياء، والمراد بالنسيان هنا: ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه، وبه قال أكثر المفسرين. وقيل: النسيان على حقيقته، وأنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه، وكان آدم مأخوذاً بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعاً عن هذه الأمة. والمراد من الآية تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم على القول الأوّل، أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري. واعترضه ابن عطية قائلاً بأن كون آدم مماثلاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وقرئ: {فنسي} بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنياً للمفعول، أي فنساه إبليس {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} العزم في اللغة: توطين النفس على الفعل والتصميم عليه، والمضيّ على المعتقد في أيّ شيء كان، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر.
وقيل: العزم: الصبر، أي لم نجد له صبراً عن أكل الشجرة. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال: لفلان عزم، أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه {كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35]. وقيل: المعنى: ولم نجد له عزماً على الذنب، وبه قال ابن كيسان. وقيل: ولم نجد له رأياً معزوماً عليه، وبه قال ابن قتيبة.
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، والعامل في إذ مقدّر، أي: واذكر {إِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة؛ لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى، ومعنى {فتشقى}: فتتعب في تحصيل ما لابد منه في المعاش كالحرث والزرع، ولم يقل: {فتشقيا}؛ لأن الكلام من أوّل القصة مع آدم وحده.
ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام، فقال: {إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى} أي في الجنة. والمعنى: إن لك فيها تمتعاً بأنواع المعايش وتنعماً بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية، فإنه لما نفى عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له، وهكذا قوله: {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى} فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الريّ ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو، يقال: ضحي الرجل يضحى ضحواً: إذا برز للشمس فأصابه حرّها، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكدّ في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والريّ والكسوة والكنّ، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله، وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحلّ به التعب والنصب بما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو. فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا، كما قاله كثير من المفسرين، لا شقاء الأخرى. قال الفراء: هو أن يأكل من كدّ يديه، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصماً: {وأنك لتظمأ} بفتح أن، وقرأ الباقون بكسرها على العطف على إن لك.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} قد تقدّم تفسيره في الأعراف في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20] أي أنهى إليه وسوسته، وجملة {قَالَ يَاءادَمُ} إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال، كأنه قيل: فماذا قال له في وسوسته؟ و{شَجَرَةِ الخلد} هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلاً {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} أي لا يزول ولا ينقضي {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سوآتهما} قد تقدّم تفسير هذا وما بعده في الأعراف.
قال الفراء: ومعنى طفقا في العربية: أقبلا، وقيل: جعلا يلصقان عليهما من ورق التين {وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى} أي عصاه بالأكل من الشجرة فغوى فضلّ عن الصواب أو عن مطلوبه، وهو الخلود بأكل تلك الشجرة. وقيل: فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا. وقيل: جهل موضع رشده. وقيل: بشم من كثرة الأكل. قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدّم ونية صحيحة، فنحن نقول: عصى آدم ربه فغوى. انتهى. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم. قلت: لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما قلته في هذا المعنى:
عصى أبو العالم وهو الذي ** من طينة صوّره الله

وأسجد الأملاك من أجله ** وصير الجنة مأواه

أغواه إبليس فمن ذا أنا المس ** كين إن إبليس أغواه

{ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} أي: اصطفاه وقرّبه. قال ابن فورك: كانت المعصية من آدم قبل النبوّة بدليل ما في هذه الآية، فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية، وإذا كانت المعصية قبل النبوّة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً {فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} أي تاب عليه من معصيته، وهداه إلى الثبات على التوبة. قيل: وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].
وقد مرّ وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} أي القرآن {ذِكْراً} قال: حذراً وورعاً.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان} يقول: لا تعجل حتى نبينه لك.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تطلب قصاصاً، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فأنزل الله: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان} الآية، فوقف النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34] الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلاَ تَعْجَلْ} الآية قال: لا تتله على أحد حتى نتمه لك.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن منده في التوحيد، والطبراني في الصغير وصححه عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان؛ لأنه عهد إليه فنسي.
وأخرج عبد الغني، وابن سعد عن ابن عباس: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءادَمَ} أن لا تقرب الشجرة {فَنَسِيَ} فترك عهدي {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} قال: حفظاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {فَنَسِيَ} فترك {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} يقول: لم نجعل له عزماً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {إِنَّكَ لاَ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا ولا تضحى} قال: لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وهي شجرة الخلد» وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «حاجّ آدم موسى قال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك، قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني، أو قدّره عليّ قبل أن يخلقني»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فحج آدم موسى».

.تفسير الآيات (123- 127):

{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}
قوله: {قَالَ اهبطا} قد مرّ تفسيره في البقرة، أي انزلا من الجنة إلى الأرض، خصهما الله سبحانه بالهبوط؛ لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذرّيتهما فقال: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن يقال: خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع؛ لأنهما منشأ الأولاد. ومعنى {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}: تعاديهم في أمر المعاش ونحوه، فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} بإرسال الرسل وإنزال الكتب {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى} أي عن ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه، ولم يتبع هداي {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكاً، أي عيشاً ضيقاً. يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث، قال عنترة:
إن المنية لو تمثل مثلت ** مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وقرئ: {ضُنكى} بضم الضاد على فُعلى، ومعنى الآية: أن الله عزّ وجلّ جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنياً غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه، كما قال سبحانه: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} [النحل: 97]. وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً ضيقاً وفي تعب ونصب، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب، فهو في الأخرى أشدّ تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً، وذلك معنى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} أي مسلوب البصر. وقيل: المراد: العمى عن الحجة. وقيل: أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها.
وقد قيل: إن المراد بالمعيشة الضنك: عذاب القبر، وسيأتي ما يرجح هذا ويقوّيه.
{قَالَ رَبّى لِمَ حَشَرْتَنِي أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} في الدنيا {قَالَ كذلك} أي مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسره بقوله: {أَتَتْكَ آياتنا فَنَسِيتَهَا} أي أعرضت عنها وتركتها ولم تنظر فيها {وكذلك اليوم تنسى} أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا تنسى، أي: تترك في العمى والعذاب في النار. قال الفراء: يقال: إنه يخرج بصيراً من قبره فيعمى في حشره.
{وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أي مثل ذلك الجزاء نجزيه. والإسراف: الانهماك في الشهوات. وقيل: الشرك. {وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ} بل كذب بها {وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَدُّ} أي أفظع من المعيشة الضنك {وأبقى} أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع.
وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله يقول: {فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى}».
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال: أجار الله تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا أو يشقى في الآخرة، ثم قرأ: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} قال: لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور، ومسدد في مسنده، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً في قوله: {مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: عذاب القبر. ولفظ عبد الرزاق قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه. ولفظ ابن أبي حاتم قال: ضمة القبر. وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف.
وقد روي موقوفاً. قال ابن كثير: الموقوف أصح.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: «المعيشة الضنكى أن يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة».
وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه بأطول منه. قال ابن كثير: رفعه منكر جداً.
وأخرج ابن أبي شيبة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: «عذاب القبر» قال ابن كثير بعد إخراجه: إسناد جيد.
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود في قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: عذاب القبر، ومجموع ما ذكرنا هنا يرجح تفسير المعيشة الضنك بعذاب القبر.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني، والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن ابن مسعود؛ أنه فسر المعيشة الضنكى بالشقاء.
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} قال: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ: لا يبصر إلا النار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} قال: من أشرك بالله.